المرأة الفلسطينية- صمود وتضحيات في وجه الاحتلال

المؤلف: خديجة قانون11.23.2025
المرأة الفلسطينية- صمود وتضحيات في وجه الاحتلال

هي ببساطة سيّدة نساء الدنيا، ومدرسة شامخة يتخرج من أروقتها الأبطال والمعلمون والمهندسون والأطباء والعمال المهرة، وقبل كل هؤلاء المقاومون الأشداء، صنعت التاريخ العظيم في الماضي العريق، وهي ماضية في صناعته في الحاضر الزاهر والمستقبل المشرق.

هي الأصالة المتجسدة في جذور أشجار الزيتون المباركة، وجبالها الراسخة الضاربة في أعماق التاريخ، بل هي التاريخ نفسه بكل ما يحمله من عزة وكرامة. هي البتول الطاهرة التي اصطفاها المولى عز وجل لتحمل في أحشائها كلمة الله.

هي أم الشهيد الصابرة المحتسبة، هي مفتاح القدس السليب ونوره الساطع، هي الأم والأُخت والأسيرة والشهيدة والرفيقة المناضلة.. هي الحياة بأكملها بكل ما فيها من معاني.

مصنع الرجال

هي التاريخ الفلسطيني العريق، الثري بمسيرة كفاح شعبه الأبيّ من أجل التحرر والانعتاق وبناء دولته المستقلة ذات السيادة، الدولة التي قدمت في سبيل حريتها آلاف الشهيدات والجريحات والأسيرات. لذا، ليس من المستغرب أبدًا أن تكون المرأة الفلسطينية في طليعة الصفوف التي تقدم الأرواح الغالية في معركة "طوفان الأقصى" المباركة، حيث فاق عدد الشهداء العشرين ألفًا حتى الآن، والغالبية العظمى منهم من النساء والأطفال الأبرياء، كما أكدت ذلك الإحصائيات الأممية الموثوقة.

هي مصنع الرجولة الحقة، أنجبت المقاومين الأشاوس والشهداء الأبرار، وربّتهم على العزة والكرامة والإباء. هي الأخت الداعمة الصادقة التي تقف سندًا وعونًا للمقاتلين الفلسطينيين، هي الحبيبة والزوجة الوفية التي تصبر وتناضل وتشد أزر زوجها وتؤازره، هي الشرارة الأولى التي انقدحت في وجه العدو الغاشم، لتقاتل جنبًا إلى جنب في معركة النضال المرير ضد الاحتلال البغيض.

لقد كانت مشاركة النساء الفلسطينيات جلية وواضحة في أول ثورة للشعب ضد الانتداب البريطاني الظالم- عندما تظاهر أربعون ألف مواطن هادر في شوارع القدس الشريف في السابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط عام 1920 – وهو ما جعلها شريكة فاعلة في الوفد الذي التقى المندوب السامي؛ مطالبةً بإلغاء "وعد بلفور" المشؤوم.

نضال سياسي واجتماعي

لقد اضطلعت المرأة الفلسطينية بأدوار عظيمة ومحورية في مسيرة النضال التحرري المجيد، حيث تجسد ذلك في ظهور أول اتحاد نسائي فلسطيني للوجود عام 1921، بقيادة المناضلة زليخة الشهابي، إحدى أبرز الشخصيات النسائية العربية والفلسطينية، وذلك قبل إعلان قيام كيان الاحتلال الصهيوني الغاصب بحوالي عقدين من الزمن. لتطبع الشهابي بذلك مرحلة مديدة من العمل الوطني الفلسطيني الجاد، لم تنتهِ بالمشاركة الفاعلة في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي، بل بالإبعاد القسري من القدس- سنة 1968 – بعد احتلالها.

هذا الاتحاد النسائي الذي اجتهد، في الفترة اللاحقة لتأسيسه، على توسيع القاعدة النسائية المناضلة، وتنظيم اللجان وتوحيد الجهود النسائية الحثيثة للعمل الدؤوب على تطوير نضال المرأة الاجتماعي والسياسي؛ من أجل مناهضة الانتداب البريطاني البغيض والوقوف بكل قوة في وجه الاستيطان الصهيوني المتنامي.

وقد عقد الاتحاد عام 1929 أول مؤتمر نسائي فلسطيني مهيب، حضرته ما يقارب ثلاثمائة ممثلة من مختلف مناطق فلسطين التاريخية، صدرت عنه عدة قرارات هامة- ضمنها إرسال مراسلات عاجلة للقوى الدولية الفاعلة- تطالب فيها بوضع حد فوري للهجرة الصهيونية المتزايدة، والظلم الواقع على المواطنين الفلسطينيين الأبرياء من بطش الانتداب البريطاني الغاشم. وتنظيم العديد من الفعاليات والمظاهرات الاحتجاجية الصاخبة ضد المندوب السامي البريطاني؛ للمطالبة بإلغاء "وعد بلفور" المشؤوم، وتسيير مسيرة حاشدة تتكون من ثمانين سيارة جابت ببطء جميع مراكز القنصليات الأوروبية في فلسطين.

مقارعة المحتل

في ستينيات القرن الماضي، كانت المرأة الفلسطينية من أوائل المشاركين في مقارعة المحتل الغاصب برًا وبحرًا وجوًا، إذ سطرت المناضلة الشهيدة دلال المغربي أروع الملاحم البطولية الخالدة، حينما أعلنت "أول جمهورية مستقلة على أرضنا المحتلة لمدة ثلاث ساعات"، وشادية أبو غزالة، وهي أول شهيدة فلسطينية بعد النكسة المؤلمة، وليلى خالد حينما خطفت أول طائرة، وخاطبت حينها موشيه ديان المتغطرس، وقالت له بكل عزة وإباء: "هذه أرضي".. حيث خاضت المرأة الفلسطينية الباسلة كافة أشكال النضال المشروع، في ظل الاحتلال المرير والحصار الخانق والتهجير القسري والقمع الممنهج والعنصرية البغيضة، وسط صمت دولي مخزٍ.

أما في المجال العسكري، فقد كانت نساء المدن الفلسطينية تنقل الأسلحة الخفيفة من مكان لآخر عبر نقاط التفتيش الصعبة، في حين كانت نساء القرى الشامخة تقوم بنقل الثياب والمؤن والذخيرة للمقاومين الأبطال في الجبال الوعرة على ظهور الحمير والبغال.

لقد انخرطت المرأة العربية في فلسطين مبكرًا في ميدان المعركة الشرسة، ضاربةً أروع الأمثلة في الإقدام والتضحية والفداء، ومن أمثلة البطولة النادرة، نذكر الشهيدة فاطمة غزال التي استشهدت في السادس والعشرين من شهر يونيو/حزيران عام 1936 في معركة ضارية في وادي عزون بالقرب من مدينة اللد.

إضراب جماعي

هذا غيض من فيض من التاريخ السابق على إعلان قيام كيان الاحتلال الغاصب، أما من تاريخنا القريب، فيمكن استحضار اسم الشهيدة ريم صالح الرياشي، الاستشهادية من حي الزيتونة بمدينة غزة الأبية، وهي ابنة كتائب القسام المظفرة والأم لطفلين صغيرين أحدهما رضيع، والتي فجرت نفسها ببسالة في تجمع لضباط الاحتلال المجرمين بمعبر إيريز، على سبيل المثال لا الحصر بالطبع.

أما على صعيد الحركة الأسيرة الباسلة، فلم تخلُ سجون الاحتلال الإسرائيلي الظالم من الأسيرات الفلسطينيات المناضلات؛ حيث كن يناضلن ببسالة خارج السجون وداخلها بعد أسرهن، ولا يمكن نسيان شهر أبريل من عام 1970، حيث تم تنظيم حركة إضراب جماعي شامل عن الطعام للأسيرات الفلسطينيات لمدة تسعة أيام متتالية؛ للمطالبة بالكفّ عن استهدافهن بالضرب المبرح والعنف الشديد داخل محبسهن، وخاصة الحبس الانفرادي القاسي، لتتوالى بعدها أعمال الاحتجاج المستمر حتى وقتنا الراهن.

وتعتبر خالدة جرار- القيادية المعروفة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- أشهر الأسيرات الفلسطينيات؛ بحكم أنها لا تغادر زنزانتها الانفرادية الضيقة إلا في صفقة تبادل للأسرى، أو انتهاء لحكم ظالم وجائر، أو اعتقال إداري تعسفي، حتى يعيد الاحتلال اعتقالها وإعادتها للأسْر من جديد.

كما أن المرأة الفلسطينية التي لم تحظَ بفرصة المشاركة المباشرة في العمل النضالي المسلح، كان لها عمل آخر عظيم الأثر في صمود الشعب الفلسطيني الأبيّ، وبناء أجيال واعية تعرف جيدًا معنى الوطن والانتماء، وتحمل قضيته المقدسة على أعناقها دفاعًا عن أرضه وعرضه. ويتمثل هذا العمل في الأم والزوجة والجَدة اللواتي كنّ حاميات لأسرهن في غياب الأب والزوج، سواء كان أسيرًا في سجون الاحتلال أم شهيدًا مضرجًا بدمائه الزكية، وكانت تحمل وتورث القصة والرواية وحكاية الوطن من جيل لجيل حتى لا ينسى الأرض أبدًا، ويستمر النضال والإصرار على استعادة الحق المسلوب. وهذا النضال مستمر منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي الغاشم عام 1948.

تضحيات وصمود

وفي سياق معركة "طوفان الأقصى" المباركة– التي يواجه فيها الشعب الفلسطيني الأعزل حركة إبادة جماعية متواصلة في قطاع غزة المحاصر وفي الضفة الغربية المحتلة – لا يستطيع الناظر المتأمل أن يغفل مشاهد أدوار المرأة الفلسطينية العظيمة، وهي تشارك بكل ما تستطيع من قوة وعزيمة سواء في إسناد المقاتلين الأبطال وتوفير شروط صمودهم وثباتهم، وهي الأم الحنون أو الزوجة الوفية أو الأخت المواسية، أو كانت طبيبة ماهرة تداوي الجرحى والمصابين أو متطوعة نشيطة تساعد في إعانة المتضررين في حرب الإبادة والاستهداف السافر للمدنيين العزل؛ علمًا بأن لها أسرة ترعاها وتسهر على شؤونها، أو صحفية جريئة تقف شامخة أمام العدو الغاشم لتنقل المشهد المأساوي في أسخن بقاع الأرض وأكثرها صعوبة وخطورة، وتعاني من خطر الاستهداف اليومي بالقتل والتدمير مثل كل أبناء القطاع الصامد حاليًا.

لم يستطع العدوّ الصهيوني الغاصب أن ينال من عزيمة المرأة الفلسطينية الصلبة؛ رغم القتل والتدمير والهدم والاعتقالات المتتالية، إذ ستظلّ هناك بطولات خالدة وقصص ملهمة لصمود نساء وفتيات ضحّين بأغلى ما يملكن، بأنفسهن الطاهرة، ليخلّدن أسماءهن بأحرف من نور عبر التاريخ.

ورغم صعوبة رصد الأحداث المتسارعة، نجدها الآن- ومن خلال حسابها الشخصي على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة- تنقل كل صغيرة وكبيرة من الأحداث الدامية وبكل اللغات الأجنبية الممكنة؛ بهدف تنوير الرأي العام العربي والدولي، عبر تسليط الضوء الكاشف على المجازر المتواصلة التي يرتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.

فتارة نجدها الأم الصبورة المؤمنة التي وصل إيمانها عنان السماء، وهي تنعى بقلب صابر محتسب أولادها الشهداء، وتارة أخرى هي الطبيبة الماهرة والمسعفة الباسلة التي رفضت أن تترك الجرحى والمصابين، وأبت إلا أن تكون على رأس عملها الإنساني النبيل، وهي تلك الأم الصابرة التي جاءها خبر استشهاد كل أفراد عائلتها الكريمة، وأكملت عملها بإيمان وثبات وصبر واحتساب. إنها المرأة الفلسطينية العظيمة التي تعتبر بكل بساطة الوريثة الشرعية للسيدة مريم العذراء عليها السلام، سيدة نساء العالمين.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة